-->

المشاركات الشائعة

كيف تنبني الولاية الصوفية داخل النسيج الاجتماعي

كيف تنبني الولاية الصوفية داخل النسيج الاجتماعي يقدم الولي نفسه أو مشروعه في النسق الصوفي كبديل ثقافي ديني سياسي لما يعتمل في الواقع، فالولاية هنا تحتمل بعدا احتجاجيا على ما هو سائد ويتمظهر ذلك في الهروب من الواقع وانتقاده واللجوء الى الجبال وأطراف المدن كرد فعل لرفظها لما هو داخل المجتمع باعتباره يمثل المدنس واللا صلاح في مقابل الصلاح الذي يمثله الولي داخل وسطه. ان المنفى المجالي الذي يختاره الولي يمكن اعتباره كمخاض وولادة ثانية، فكل تجربة صلاح في هذا الاطار تتأسس بداية على وجوب القطيعة مع الدنيوي بغية الاتصال بالقدسي، فالانفصال هو ما يثمر الاتصال، فالمنفى المجالي الذي يختاره الولي يمكن اعتباره هنا كرحم للولادة بعد حمل افتراضي ينبني على ترويض النفس ومجاهدتها حتى تتفوق على الدنيوي والمدنس وتظفر بارتباطها بالمقدس والمتعالي. فالولاة ليست مجرد هجرة نحو السماء والمتعالي، انها موقف ورد فعل لما يعتمل في الارض، فالتناقضات القائمة بين الكائن والممكن دنيويا هو العماد في نشأة بركة الأولياء، وعزلة الولي وانفصاله عن الدنيوي هو ما يفتح المجال امام فيض البركة وظهور الكرامة. إن حظور ال

المقدس والطقوس في السوسيولوجيا الدينية

المقدس والطقوس في السوسيولوجيا الدينية تشير عدة تعريفات الى اعتبار المقدس دالا على ما هو ديني وطقوسي، أو متعلقا بالرمزي في مقابل المادي، والمتعالي في مقابل السفلي. ففي حين يحضر المقدس كمتعال وكمفارق ويحتل مكانة عليا في النسق الرمزي للوقائع والتمثلات تبعا لتصور العالم القديم، بل إنه يصير دالا على الالهي في مقابل البشري والدنيوي. أما إميل دوركهايم فنجده يقترح زوجا تقابليا يتكون من المقدس والمدنس للفهم والتفسير، وان الدين هو المؤسسة التي تفصل بين المقدس والمدنس، كما يعتبر ان المقدس هو السمة الاساسية لتعريف الظاهرة الدينية، علما ان القداسة في حد ذاتها تنتج عن المجتمع نقسه. أما مارسيا إلياد فقد أكد على وجوب الخروج من فخ التعارض بين المقدس والمدنس على اعتبار المقدس غير متماثل مع الالهي ولا مقابل للدنيوي، وان المقدس هو تجلي للاهلي في الزمان والمكان، والطقوس هي التي تضمن إمكانية العبور من الزمن العادي الى الزمن القدسي. في حين يرى روجيه كايوا ان المقدس يحيل على خاصية ثابتة أو عابرة تتمظهر في بعض الاشياء كأدوات العبادة والأمكنة والأزمنة وغيرها، فالمقدس برأيه ليس صفة تمتلكها

مدخل الى الكتابة المناقبية المؤلفة في أولياء الصوفية

مدخل الى الكتابة المناقبية المؤلفة في أولياء الصوفية يندرج هذا المقال  في دراسة نوع من أنواع الفكر الديني التاريخي التي أفرزتها الحضارة العربية الإسلامية، سواء في مشرقها العربي أو في غربها الإسلامي، والمقصود هنا ما اصطلح على تسميته بــ «أدب المناقب». يتطلب البحث في هذا النوع من الكتابة الإجابة على كثير من التساؤلات التي تفرض نفسها بإلحاح من قبيل: ما المقصود من عبارة أدب المناقب، وهل هناك تعاريف محددة لهذا النوع من الكتابة؟ ما علاقته بالتاريخ؟ متى وكيف وأين ظهر هذا النوع من الكتابة؟ وما العوامل التي ساعدت على ظهوره وازدهاره؟ وكيف تلازمت ولادته مع ظهور رجال اتسموا بالصلاح والولاية؟ ما موضوعه، وما منهاجه، وما طبيعة القضايا التي يطرحها؟ كيف يمكن تحليل هذا النوع من الكتابة وما الطرق المنهجية الكفيلة بتحليله وتركيبه وتقريبه إلى القارئ؟... أسئلة كثيرة يطرحها موضوع أدب المناقب، لكن الإجابة عنها تستوجب بحثا مستقلا، والمقام هنا يفرض علينا عدم البحث في الكثير من قضايا وإشكالات هذا النوع من الكتابة، لذا سنحاول هنا الاقتصار على إعطاء صورة عامة حول طبيعة الكتابة المنقبية. في القرن الث

بداية التصوف وظهور الطرق الصوفية بالمغرب

بداية التصوف وظهور الطرق الصوفية بالمغرب مثل التصوف المغربي صورة حية ناطقة للتصوف الاسلامي السني عامة، ولما تركته تظريات التصوف المغربي من أثار عميقة في الفكر الصوفي المشرقي، وتاريخ الحركة الصوفية لا يشمل الجانب الثقافي والروحي فحسب بل يتجاوزه الى الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكذلك كان للتصوف المغربي أثر كبير في توجيه وتغيير كافة أوجه الحياة في تلك المرحلة. وعلى الرغم من ظهور التصوف في القرن الثاني الهجري وانتشاره في الشرق العربي إلا ان المجتمع المغربي كان بمعزل عنه ولم يعرفه أهله كما عرفه اخوانهم المشارقة حتى أوائل القرن الخامس الهجري أو قبله بقليل، وذلك في عهد المرابطين. وقد بدأ التصوف المغربي مبنيا على الزهد والتقشف والنسك وحمل النفس على المجاهدة في الطاعة والوقوف مع ظاهر الشرع دون تغلغل في علوم المكاشفات والحقائق، لذلك لم يحتدم في المغرب في ذلك العصر صراع بين الفقهاء والمتصوفة كما حدث في الشرق من قبل، لبعد التصوف المغربي عما يخالف ظاهر الشريعة من منظور الفقهاء. في منتصف القرن الخامس الهجري دخلت بعض كتب التصوف للمغرب وفوجئ العلماء في آواخر هذا القرن بكتاب إ
جميع الحقوق محفوظة للتصوف وسوسيولوجيا الظاهرة الدينية div>الملكية الفكرية محفوظة لمؤلف الكتاب

قراءة في كتاب "إحياء علوم الدين" لللإمام الغزالي

قراءة في كتاب "إحياء علوم الدين" لللإمام الغزالي


قراءة في كتاب "إحياء علوم الدين" لللإمام الغزالي

        : الإمام الغزالي ومؤلفه "إحياء علوم الدين"
1-     نبذة عن حياة الإمام ابي حامد الغزالي:
   في سنة 450 هـ ولد ابو حامد محمد بن محمد بن احمد الغزالي في طوس ، وكان والده رجلا صالحا يحب العلماء ، كان  يأكل من عمل يده ، وقد توفي مبكرا تاركا امر ولديه – الإمام الغزالي وأخيه – تحت وصاية احد رجال المتصوفة في ذلك العصر وقد تولى هذا الصوفي امر تربية الولدين والإنفاق عليهما ، كما حرص على تعليمهما  فادخلهما احدى المدارس من اجل التفقه وطلب العلم .
وفي سن الشباب بدأ الغزالي بدراسة اصول الفقه على يد احمد الراذكاني ، ثم سافر الى جرجان ابي نصر الاسماعيلي وعلق عنه التعليقة ثم رجع الى طوس[1] .
وبعد ذلك كانت وجهة الغزالي نيسابور حيث لازم امام الحرمين انذاك الإمام الجويني ، وقد لعبت هذه المرحلة التي قضاها مع الجويني دورا اساسيا في تكوينه العقلي، بحيث اخد عنه بعض المبادئ العامة في المنطق والجدل ومعرفة مناهج الفلاسفة والرد عليهم ، وبدأ يكتب من ذلك الحين حيث كانت قد استقرت في ذهنه افكاره الرئيسة التي تكون شخصيته الفلسفية .
وبعد وفاة استاذه امام الحرمين سنة 478هـ قصد الغزالي الوزير نظام الملك الذي نال منه  الكثير من الاحترام والتقدير لما رأى منه من بلاغة وقدرة على اقامة الدليل ، فكلفه بمهنة التدريس بالمدرسة النظامية ، ثم رجع الى طوس واتخذ الى جانب داره مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية ووزع اوقافه على وظائف من ختم القران ومجالسة ارباب القلوب والتدريس لطلبة العلم[2] .
لقد قضى الغزالي بضعة سنين في التعليم بالمدرسة النظامية ، وبعد ذلك وفي سن الثامنة والثلاثين من عمره واجه مشكلة المعرفة واليقين الشخصي بكل اتساعها[3] .
ودفعه شعوره الباطني الى البحث عن حياة صوفية ، فهجر مهنة التدريس متجها الى سورية – بلد تعلم التصوف ، واعتكف في زاوية بالجامع الاموي ، حيث اشتغل بالتأليف ومجاهدة النفس ، ثم ذهب الى القدس ، ومن القدس الى حبرون من اجل زيارة مقام النبي ابراهيم الخليل (عليه الصلاة والسلام) .
كما قام بزيارة مكة والمدينة ؛ ولا يمكن القول ان الغزالي مر من هذه المراحل المتعاقبة في سفره بسبب مرضه او مضايقات تعرض لها من قبل الحكومة ، بل هناك اسباب باطنية حفزته على ترك بلده وكذلك مهنة التدريس ، فهو كان يدرك ان حل مسالة الحياة لا يمكن ان يكون حلا صوفيا ، فكون الإمام الغزالي قد ترعرع على يد رجل صوفي وأحاط به اناس اتقياء منذ نعومة اظافره ، كان من الجلي نشوؤه مستعدا للنسك والتأمل[4] .
وهذا الشعور الباطني الذي أحس به الغزالي ، يسميه البعض بنوبة الشك ، إلا أنه من الواضح ان هذا الشك لم يكن شكا اصيب به في عقائده ، بل ان صح التعبير انه شك في المعرفة بنوعيها : الحسية والعقلية ، يقول الغزالي في المنقذ من الضلال"فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس ، حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر ، اذ لم يكن تركيب الدليل ، فأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين ، انا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال لا بحكم النطق والمقال ، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض والاعتلال وعادت النفس الى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقة بها على أمن ويقين"[5] .
وما كان من العبث ان يحبس الغزالي نفسه في زاوية ضيقة أياما وشهورا بعيدا عن العالم لو لم يذق في هذه العزلات بهجات باطنية[6] ، فهو لم ينتقل من الشك الى اليقين بالدليل العقلي ، وان عودة الثقة  اليه بالضرورات العقلية[7] ، اذ يعبر عن ذلك بأنه لم يكن بنظم دليل وترتيب كلام ،

بل بنور قذفه الله في الصدر ، وذلك النور مفتاح اكثر المعارف ، فمن ظن ان الكشف موقوف على الادلة المجردة فقد ضيق رحمة الله الواسعة[8] .
وبالرغم من ان الغزالي اكد انه وأثناء الشهور التي قضاها في عزلته وخلوته بحثا عن اليقين، انكشفت له أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها[9] ، إلا انه ومن المعروف عليه انه لم يتجمل تجمل أكابر الصوفية ، ولم يسقط في المذهب القائل بوحدة الوجود ، ولا عرف حاصل الاحوال ، ولم يروى عنه انه كان صاحب كرامات ، ولم يعرف على انه الف حول المقامات الصوفية ، وهذا ما جعل شخصيته الصوفية لم تعرف عند الكثيرين .
إضافة إلى أن شهرته في الجانب الفلسفي غطت على شهرة شخصيته الصوفية ، فلم تحضى هذه الاخيرة بتلك الهالة التي احاطت بالحلاج والبسطامي ، فهو كان يغلب ملكاته العقلية على ملكاته الوجدية ، الشيء الذي جعل منه مثالا على صوفي معتدل ، ومثالا على رجل صوفي كبير عالم في الاخلاق ، فرأى في تثقيف الشعور الديني وسيلة لإنماء شعور الجمال الخلقي[10] .
وأثناء سنوات عزلته التي قضاها خارج بلده ، الف كتابه المشهور " إحياء علوم الدين" الذي أظهره ببغداد حين عودته ، ومن بغداد ذهب إلى نيسابور ليمتهن التدريس مرة اخرى بالمدرسة النظامية ، وهذا لم يمنعه من الاستمرار في حياة الزهد والتقشف ، وأخيرا كانت وجهته مسقط رأسه طوس ، حيث اقام مدرسة للفقهاء وخانقاه للصوفية ، توفي سنة 505 هـ بطوس ودفن بها[11].





        2-  نبذة عن كتاب "إحياء علوم الدين" :
سبق واشرنا الى ان كتاب "إحياء علوم الدين" يعتبر من اهم مؤلفات الإمام الغزالي في الفقه والتصوف، والذي ركز فيه بشكل كبير على العلم الذي يجب على الانسان ان يتوجه به الى الاخرة ، وقد تعرض هذا الكتاب لمحنة الاحراق في عصر الدولة المرابطية ، وكانت المدة التي مثلت وصول الكتاب الى المغرب وإحراقه قد امتدت نحو ثمان سنوات ، كانت كافية لتداوله بين المهتمين .
وقد تعددت الروايات حول هذا الموضوع ، فبعض الروايات تبين ان عملية الاحراق كانت تخص كتاب الاحياء ، وبعضها جاء بالتعميم – حيث قالت ان الاحراق شمل كل مؤلفات الغزالي دون استثناء ؛ ففي رسالة لتاشفين بن علي 538هـ - وهي تفيد التعميم ، اذا يقول فيها" ومتى عثرتم على كتاب بدعة او صاحب بدعة ، وخاصة –وفقكم الله- كتب ابي حامد الغزالي ، فليتتبع اثرها ، وليقطع المتتابع خبرها ، ويبحث عليها ، وتغلظ الايمان على من يتهم بكتمانها"[12].
أما من ناحية محتويات الإحياء ، فليس هناك افضل من صاحب الكتاب ليدلنا عن ذلك ، حيث ذكر ذلك في مقدمة الكتاب ،فقال : وقد أسسته على أربعة أرباع – يقصد الإحياء - ، وهي : ربع العبادات ، وربع العادات ، وربع المهلكات ، وربع المنجيات
فأما ربع العبادات ، فيذكر فيه من خفايا ادابها ودقائق سننها وأسرار معانيها ما يضطر العالم العامل اليه ، بل لا يكون من علماء الاخرة من لا يطلع عليه ، وأكثر ذلك مما اهمل في فن الفقهيات .
وأما ربع العادات ، فيذكر فيه اسرار المعاملات الجارية بين الخلق وأغوارها ودقائق سننها وخفايا الورع في مجاريها وهي مما لا يستغني عنها متدين .
وأما ربع المهلكات ، فيذكر فيه كل خلق مذموم ورد القران بإماطته وتزكية النفس عنه وتطهير القلب منه ، ويذكر من كل واحد من تلك الاخلاق حده وحقيقته ، ثم يذكر سببه الذي منه يتولد ، ثم الافات التي عليها تترتب ، ثم العلامات التي بها تعرف، ثم طرق المعالجة منها  ، كل ذلك مقرونا بشواهد الايات والأخبار والآثار .
وأما ربع المنجيات ، فيذكر فيه كل خلق محمود وخصلة مرغوب فيها من خصال المقربين والصديقين التي بها يتقرب العبد من رب العالمين ، ويذكر في كل خصلة حدها وحقيقتها وسببها الذي به تجتلب ، وثمرتها التي منها تستفاد ، وعلامتها التي بها تعرف وفضيلتها التي لأجلها فيها يرغب مع ما ورد فيها من شواهد الشرع والعقل[13]
إذن فكتاب الإحياء قد ضم العديد من الآراء الفقهية  والصوفية ، إضافة إلى مجموعة من الأفكار و الآراء في مجال العلوم الأخرى ، وسنحاول هنا بيان أهم الأفكار و الاراء التي تضمنها كتاب الإحياء. 
    أ ولا : الفقه في كتاب الإحياء
يركز الغزالي على علم المعاملة – الصنف الاول من التصوف – في كتابه إحياء علوم الدين، وأن هذا العلم لا يتناقض مع علم الفقه المعروف في اي شيء بل هو علم موازن ومكمل لعلم الفقه ، والفقه كما هو معروف عند  الفقهاء جامع لأحكام الشريعة الإسلامية ، والفروض تؤدى أداء جسمانيا، إلا أن الغزالي يرى ان تؤدى الفروض أداء جسمانيا وروحيا، أداء جسمانيا في علم الفقه، وأداء روحيا في علم المعاملة.  و منهج الإمام الغزالي في عرضه لعلم الفقه داخل الإحياء يختلف عن منهج الفقهاء، إذ هم يعرضون الفقه من جانب واحد، وهو الجانب الظاهر من الشريعة، أما الغزالي فلم يكتفي في الفقه بعرض الجانب الظاهر فقط ، بل عرض كذلك الجانب الباطن للفقه ، من هنا يظهر ان الفقه في نظر الغزالي فقهان : فقه الظاهر وفقه الباطن .
و من بين الامور الفقهية التي أشار إليها الغزالي نذكر مجالات عمل الفقيه، إذ نجد ان دور الفقهاء في المجال السياسي ضروري وان رأيهم في اختيار الإمام هو الرأي الحاسم ، وهذا يبرز الوظيفة السياسية للفقيه ، يقول الغزالي في هذا الصدد " الناس تولوا الدنيا بالشهوات فتولدت منها الخصومات، فمست الحاجة الى سلطان يسوسهم، واحتاج السلطان الى قانون يسوسهم  به، فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق اذا تنازعوا بحكم الشهوات ، فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده الى طرق سياسة الخلق وضبطهم لتنتظم باستقامتهم امورهم في الدنيا[14] .
ومن وظائف الفقيه أيضا الاشتغال بمعرفة فقه العبادات من صيام وصلاة.... وكذا فقه المعاملات وذلك من اجل بيان الحلال والحرام ، وهذا الجانب من الفقه يسميه الغزالي اعمال الاخرة ، ويحدد الغزالي وظيفة الفقيه في هذا الجانب ، فيقول :
فاعلم أن أقرب ما يتكلم الفقيه فيه من الأعمال التي هي أعمال الاخرة ثلاثة : الإسلام ، والصلاة والزكاة ، والحلال والحرام ، فإذا تأملت منتهى نظر الفقيه فيما علمت انه لا يتجاوز حدود الدنيا الى الاخرة ، وإذا عرفت هذا في هذه الثلاثة فهو في غيرها أظهر .
اما الإسلام فيتكلم الفقيه فيما يصح منه و فيما يفسد وفي شروطه وليس يلتفت فيه إلا إلى اللسان وأما القلب فخارج عن ولاية الفقيه ، وأما الاخرة فلا تنفع فيها الاموال بل أنوار القلوب وأسرارها وإخلاصها ، وليس ذلك من الفقه، وان خاض الفقيه فيه كان كما لو خاض في الكلام والطب وكان خارجا عن فنه ، وأما الصلاة فالفقيه يفتي بصحتها إذا أتى فيها المصلي بصورة الاعمال مع ظاهر الشروط وان كان غافلا في جميع صلاته من أولها إلى آخرها ، وأما الزكاة فالفقيه ينظر الى ما يقطع به مطالبة السلطان حتى أنه إذا امتنع عن أدائها فأخذها السلطان قهرا حكم بأنه برئت ذمته[15] .
وانطلاقا مما قاله الغزالي حول وظيفة الفقيه يتبين ان وظيفته تنحصر في الأعمال الظاهرة من أداء الفروض وبيان صحتها ، والإفتاء في الحلال والحرام استنادا الى النصوص الشرعية ، أما أعمال الاخرة أو أعمال القلب فلا يجوز للفقيه الخوض فيها حسب قول الغزالي ، وان خاض الفقيه في هذه الاعمال كان كمن خاض في الطب ، إذ كل يشتغل باختصاصه ، فالطب ليس من اختصاص الفقيه ، وكذلك أعمال القلب ، فالصلاة كعمل ظاهر اذا أتم المصلي شروطها وفرائضها افتى الفقيه بصحة صلاته، أما ما يتعلق بالقلب من خشوع وعدم انشغال الذهن بأمور الدنيا فليس من عمل الفقيه، ولو اشتغل به كان خارجا عن فنه - كما قال الغزالي،  وأعمال الاخرة ضرورية إذ بها تتم وتكمل الاعمال الظاهرة وقد أشار إلى هذا الغزالي بقوله  "فان جميع نظر الفقيه مرتبط بالدنيا التي بها صلاح طريق الاخرة[16] .



ثانيا : جوانب من التصوف داخل الإحياء                                                                                                        بالإضافة إلى ما ذكرناه في مجال الفقه وارتباطه بالتصوف ، نمر إلى ذكر جوانب أخرى من التصوف ، نذكر منها نماذج للأخلاق الصوفية.
يشتمل هذا الجانب على احدى المبادئ الهامة التي جاء بها الإسلام لتطهير النفس البشرية من الشرور ، ودعوتها الى التواضع وعدم التكبر والأنانية ، والسمو على كل الامراض التي من شانها ان تطيح بإنسانية الانسان وكرامته ، ومن اجل الحفاظ على النفس البشرية من كل ما يمكن ان يهدد سلامتها جاء الإسلام بعدة مبادئ الهدف منها صلاح نفس الفرد التي بها يكون صلاح المجتمع ، ومن بين هذه المبادئ الاخلاق، يقول الغزالي عن الأخلاق:
"ان من الناس من استثقل المجاهدة والرياضة فزعم ان الاخلاق لا يتصور تغييرها وان الطباع لا تتغير ، واستدل على ذلك بان الخلق صورة الباطن كما ان الخلق صورة الظاهر، فالخلقة الظاهرة لا يقدر على تغييرها ، اي ان القصير لا يقدر ان يجعل نفسه طويلا ، ولا الطويل يقدر ان يجعل نفسه قصيرا ، ولا القبيح يقدر على تحسين صورته ، وعلى القبح الباطن يجري هذا المجرى ، ووجد من قال ان حسن الخلق بقمع الشهوة والغضب – وانه جرب ذلك بطول المجاهدة فعرف ان ذلك من مقتضى المزاج والطبع وانه لا ينقطع عن الادمي فاشتعاله به تضييع زمان بغير فائدة ، وذلك انه لا يقصد تغيير الخلقة ، وانما يقصد اصلاح النقائص او اكتساب المحاسن الملائمة للخلقة ، مثال ذلك النواة ليست بنفاح ولا نخل ، الا انها خلقة يمكن ان تصير نخلة اذا اضيفت التربية اليها ، ولا تصير تفاحا وان بالتربية ، فاذا صارت النواة متاثرة بالاختيار حتى تقبل بعض الاحوال دون بعض فكذلك الغضب والشهوة لو اردنا قمعهما وقهرهما بالكلية حتى لا يبقى لهما اثر لم نقدر عليه اصلا ، ولو أردنا سلاستهما وقيادتهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه - وقد امرنا بذلك - وصار ذلك سبب نجاتنا .
وغاية العمل الروحاني هو تعديل الاهواء لا تقويضها ، ويتم هذا العمل بحمل الاعضاء عن ارادة على انجاز اعمال ملائمة للفضيلة التي يراد اكتسابها كيما تولد هذه الفضيلة في النفس بفعل العادة ، ومن ذلك ان الذي يود نيل الكرم يقدم على توزيع العطايا والهبات ويداوم على ذلك حتى تصبح هذه الأعمال أمرا اعتياديا لديه[17] .
فالإمام الغزالي يؤمن ان العمل الروحاني كلما طال وكان مداوما على فعله الإنسان أدى إلى تولد عادة الخير في النفس وانطباع الفضائل في القلب ، ويذكر الغزالي الفضائل التي تتألف منها الاحوال الصوفية وسنقدم بعض الكلمات التي رأيناها تدخل ضمن المقامات وهي التوبة والصبر والشكر والخوف والرجاء والفقر والزهد والمحبة والتوحيد والتوكل ... والقانون العام لأوضاع النفس هذه هي انها تتألف من علم وحال وعمل . وسنقتصر على ذكر نموذج واحد من  هذه المقامات وهو: الخوف والرجاء.
 الخوف والرجاء
يقول الغزالي في الإحياء ، الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في الاستقبال ، ومن انس بالله لم يبقى له التفات الى المستقبل ، فلم يكن له خوف ولا رجاء ، بل صار حاله اعلى من الخوف والرجاء الذين هما زمامان يمنعان النفس من تقدمها نحو الله ، وقال محدث ان الخوف حجاب بين الله والنفس ، وقال اخر اذا شغل المحب قلبه في مشاهدة المحبوب بخوف الفراق كان ذلك نقصا في المشاهدة ، ومشاهدة الله بلا خوف من الابتعاد هو الحد الوحيد في سير الصوفي ؛ وتحدث الإمام عن درجات الخوف الذي ينتاب الانسان ، فبالخوف يمكن ان يصير الانسان نقيا او صدوقا وذلك بحسب الدرجات ، يقول"واقل درجات الخوف ان يمنع الانسان نفسه عن المحظورات ، ويسمى هذا ورعا ، فان زادت قوته كف عما يتطرق اليه امكان التحريم ، ويسمى هذا تقوى ، وقد يحمله على ان يترك ما لا بأس به مخافة  ما به بأس ، ويسمى هذا صدق" .
والخوف سوط الله يسوق به عباده الى المواظبة على العلم والعمل ، والأصلح للبهيمة ألا تغفو عن السوط ، وكذا الصبي ، ولكن ذلك لا يدل على ان المبالغة في الضرب محمودة ، وذلك ان الخوف له قصور وله افراط وله اعتدال ، والمحمود هو الاعتدال والوسط ، فأما القاصر منه فهو الذي يجري مجرى رقة النساء ، فيخطر بالبال عند سماع اية من القران فيورث البكاء وتفيض الدموع ، وكذلك عند مشاهدة سبب هائل ، فإذا غاب ذلك السبب عن الحس رجع القلب الى الغفلة ، فهذا خوف قاصر قليل الجدوى ضعيف النفع ، وهو كالقضيب الذي تضرب به دابة قوية لا يؤلمها الما مبرحا فلا يسوقها الى المقصد ولا يصلح لرياضتها ، وهذا خوف الناس كلهم إلا العارفين ، وأما المفرط فانه يجاوز حد الاعتدال حتى يخرج الى العجز واليأس والقنوط ، وهو يمنع من العمل ، وهو يؤدي الى الوله والدهشة ، وقد  يفضي الى الموت ، وهو كالضرب الذي يقتل الصبي بحجة مجازاته[18] .
وللخوف اسباب شتى ، والشيء قد يخاف لذاته أو لما ينشأ عنه من مصائب ، ومن الامور التي تخاف لعواقبها بذكر الموت قبل التوبة ، ونكت العهد ، وضعف القوة عند الوفاء يتمام حقوق الله ، وزوال رقة القلب وتبدلها بالقساوة ، وخوف استيلاء العادة في اشباع الشهوات المألوفة ، ومن الامور التي تخاف لذاتها ذكر سكرات الموت وشدته ، وسؤال الملكين – منكر ونكير- والموقف بين يدي الله تعالى ، وكشف الستر والعبور على صراط جهنم ، والنار . واعلى رتب الخوف هو خوف الفراق والحجاب عن الله – وهو خوف العارفين ، وما قبل ذلك هو خوف الصالحين[19] .
نجد في معرض حديث الغزالي عن الخوف انه يميز بين ماهو مناسب للناس وبين ما هو غير مناسب اذا يقول"والمحمود هو الاعتدال والوسط" فهو يرى ان الاصلح للناس هو الاعتدال بين الخوف والرجاء ، وهذه هي المشاعر الخلقية التي تحدث عنها الإمام الغزالي هي اسباب النجاة من غضب الله وسخطه ، والابتعاد من حال اليأس والقنوط من رحمة الله الى نيل رضا الله ومحبته .
 ان أمكننا القول إن علم الأخلاق عند الزهاد الصوفيين هو نوع  من الابتلاء،  وجب على الصوفي التغلب على عيوب النفس ونقائصها ، واستبدالها بفضائل ومحاسن ملائمة للنفس ، ويتم هذا في نظر الإمام الغزالي عن طريق المجاهدة والرياضة ، وهدف الصوفي هو نقاء النفس الذي يبعده عن كل انحراف مخالف لعقائد دينه الحنيف .
 وهكذا فان الإمام الغزالي ، اذ وصل الى بين مواهب في التعبير عالية وطواعية في النفس كبيرة ، وبين شعور حاد نفاذ بالأمور الخلقية ، صار بحكم الواقع ، ذاك السيد الذي اتم علم الاخلاق في الإسلام .

  الخطاب الصوفي أو نظرية المعرفة
من بين الجوانب الصوفية التي تضمنها الإحياء أيضا نذكر ما يتعلق بالخطابات الصوفية وما قاله الغزالي في هذا الشأن.
من خلال الاطلاع على انواع الخطابات الصوفية ، نجد نوعا من التماثل في اللغة والمصطلحات التي تتكرر في جميع الخطابات الصوفية ، اما بعض نقط التمايز فهي ما سنعرض له في الحديث عن موقف الغزالي من الخطاب الصوفي وهل كل خطاب يمثل مقاما في مستوى الكلام .
فالخطابات الصوفية تختلف عن باقي الخطابات الاخرى ، اذ نجدها تتميز بصيغة كلامية غير عادية، هذه الصيغة الكلامية هي أحاديث عن العشق الإلهي والحلول والاتحاد والرؤية والمشاهدة والمشافهة ومدركات اخرى بعيدة عن صيغ كلام الناس في واقعهم الذي يحكمه المنطق وتغلب عليه الحسية والعقلانية[20]، وهذه الصيغ الكلامية التي تعتري الخطابات الصوفية لا تهدف بالضرورة الى نقل رسالة محشوة بالأفكار والمضامين بقدر ما تعبر عما تعيشه النفس من احوال ومقامات ، اما من ناحية بنية هذه الخطابات الدلالية فإنها تمثل لونا من الرموز والإشارات .
إن مصدر المعرفة عند المتصوفة هو الكشف والإلهام ، ويتأتى ذلك بنور يقذفه الله في قلب المؤمن الصالح ، فلغتهم ليست لغة الوصف ، بل هي لغة الكشف ، فهذه الصيغ الكلامية غير المألوفة تكشف عن معانات وأحوال النفس لا عن الأقوال ، كما تكشف عن واقع مرتفع عن واقع الناس ومنطقهم ونظرتهم الى الكون والأشياء ، ذلك الواقع غير العادي والموسوم بالخوارق والمستحيلات ... واقع يدهش العقول ويشوش القلوب[21] .
      ليس كل خطاب صوفي يمثل مقاما في مستوى الكلام في نظر الغزالي ، فالخطابات الصوفية فيها ما يمثل مقاما كلاميا أو مستوى من مستويات الحقيقة ، وفيها ما يمكن أن نسميه بلغو الحديث والكلام ، ولا يمثل أي مستوى من مستويات الحقيقة ، وهذا الصنف الثاني هو ما سماه الغزالي بالشطح في هذا الشأن .
"صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية احدهما : الدعاوي الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى ، والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب ، فيقولون: قال لنا :كذا ، وقلنا: كذا ، ويتشبهون في بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاق كلمات من هذا الجنس ، ويستشهدون بقوله "أنا الحق" وبما حكي عن أبي يزيد البسطامي انه قال ك "سبحاني" ، وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام . فان هذا الكلام يستلذه الطبع ، اذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال ، فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم"[22] .
هذا النص يتحدث عن زمرة من المتصوفة العوام الذين لا تمثل خطاباتهم أي مستوى من مستويات إدراك الحقائق ، وسبب تشبه هؤلاء بالحلاج والبسطامي في دعوى الاتحاد والمشافهة وغير ذلك من الكلامات التي لا يقبلها العقل والشرع هو جهلهم بالدين وبالعلوم ، ولتوضيح الصورة أكثر عن هذا الوضع من الخطابات نورد كلام الغزالي عن الصنف الثاني من الشطح .
يقول :"... والصنف الثاني من الشطح ، كلمات غير مفهومة ، لها ظواهر زائفة وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل ، وذلك إما أنها غير مفهومة عند قائلها ، بل يصدرها عن خبط في عقله ، وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر ، وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره ، لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة ، ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان[23] .
أن الشطح بصنفيه عند الغزالي هو فن من الكلام ، إلا أن هذا الفن لا يمثل مقاما في مستوى الكلام ، والغزالي ينكر هذا النوع من الخطابات ويصف أصحابه اما  بالتشويش في أذهانهم او بالخطأ في إيصال تلك المعاني ، وبالتالي يضل كلامهم غير مفهوم وليس وراءه طائل ، فهذا النوع من الكلام الذي أتى على لسان بعض المتصوفة حسب تعبير الغزالي لا يمت للخطاب الصوفي بأية صلة والذي سيعطي له الغزالي بعده الحقيقي .
1-     الخطاب الصوفي المقبول عند الغزالي :
يستشهد الغزالي في معرض حديثه عن النوع الثاني من الخطابات الصوفية والذي يمثل مستوى من مستويات الإدراك الحق ، بحديثين شريفين : قال الرسول الاكرم صلى الله عليه واله "ما حدث أحدكم قوما بحديث لا يفهمون إلا كان فتنة عليهم" ، ويقول أيضا"كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون" ، ويستشهد الغزالي أيضا بقول عيسى عليه السلام "لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ن كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الداء" .
إن الصيغ الكلامية الموجودة في الخطابات الصوفية هي صيغ غير عادية وغير مألوفة كما سبق واشرنا إلى ذلك ، ومن هنا يظهر ان الخطابات الصوفية نوعان: منها ما يقبله الغزالي ومنها ما ينكره
فالخطاب الصوفي الذي يقبله الغزالي يجب أن يمثل مستوى من مستويات الإدراك الحق ، وهذا المستوى هو أرقى واشمل من مستوى الحس ، وكذا مستوى العقل ، إلا أن الطريق إليه ليس الاستدلال وليس الوحي ، وإنما هو شيء آخر سنعرفه من خلال كلام الغزالي .
يقول الغزالي "اعلم ان العلوم التي ليست ضرورية ، وإنما تحصل في القلب في بعض الاحوال يختلف الحال في حصولها . فتارة تهجم على القلب كأنما ألقي فيه من حيث لا يدري ، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم ، فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاما . والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا واستبصارا . ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى ما لا يدري العبد انه كيف حصل؟ ومن أين حصل؟ والى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب ، الأول يسمى إلهاما ونفثا في الروح ، والثاني يسمى وحيا ويختص به الأنبياء ، والأول يختص به الأولياء والأصفياء ، والذي قبله هو المكتسب بطريق الاستدلال يختص به العلماء"[24] .
تتحقق المعارف في نظر الغزالي بطرق ثلاث طريق الاستدلال ، وطريق الإلهام ، وطريق الوحي[25]؛ واذا ما أردنا التركيز على طريق الإلهام الذي يختص به الأولياء والأصفياء ، واستبعدنا طريق الاستدلال والوحي ، وهذا الاستبعاد لا يعني أن الطرق الثلاثة التي تتحقق بها المعارف تنفصل عن بعضها تمام الانفصال ، فهناك نقط الربط بينهما ، وهذا الجانب لم يغفل عنه الغزالي وعاد ليربط بين هذه الطرق.
وفي ربط الغزالي بين طريق الأولياء والعلماء يقول " فلم يفارق الإلهام الاكتساب في نفس العلم ولا في محله ولا في سببه ، ولكن يفارقه من جهة زوال الحجاب ، فان ذلك ليس باختيار العبد"[26] ، وكذلك الشأن بالنسبة للأولياء والأنبياء فالمراتب تختلف – يقول الغزالي"... ولم يفارق الوحي الإلهام في شيء من ذلك بل في مشاهدة المفيد للعلم ، فان العلم يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة"[27] .
فطريق الإلهام اذ هو أول طريق الاكتساب والتعلم ، إلا أن هناك إشكالا في هذا الشأن ينبغي للغزالي ان يجيب عليه ، وهو ان بعض الصوفية يؤكدون على أن المجاهدة بغير علم كفيلة بتحقيق المعارف؛ ويجيب الغزالي على هذا الإشكال بقوله :
"....وفي اثناء المجاهدة قد يفسد المزاج ويختلط العقل ويمرض البدن ، وإذا لم تتقدم رياضة النفس وتهذيبها بحقائق العلوم ، تشبت بالقلب خيالات فاسدة تطمئن النفس اليها مدة طويلة الى ان يزول وينقضي العمر قبل النجاح فيها ، فكم من صوفي سلك هذا الطريق ثم بقي في خيال واحد عشرين سنة ، ولو كان أتقن العلم من قبل لانفتح له وجه التباس ذلك الخيال في الحال ، فالاشتغال بطريق التعلم اوثق واقرب الى الغرض[28] .
وقد رد الغزالي في هذا الشأن على بعض المتصوفة الذين اعتمدوا الإلهام دون ان يكون لهم ولو ادنى درجة من الإلمام بالعلوم ، يقول:"فاعلم ان ميل اهل التصوف الى العلوم الإلهامية دون التعليمية فلذلك لم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون والبحث عن الأقاويل والأدلة المذكورة ، بل قالوا : الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله .... فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الامر وفاض على صدورهم النور بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب بل بالزهد في الدنيا... وأما ذوو الاعتبار فلم ينكروا وجود هذا الطريق وإمكانه وإفضائه الى هذا المقصد على الندور ، فانه أكثر أحوال الانبياء والأولياء ، ولكن استدعوا هذا الطريق واستنبطوا ثمرته واستبعدوا استجماع شروطه"[29]
يتضح من خلال هذه النصوص التي تحدث فيها الغزالي عن الطرق الثلاثة التي تتحقق بها المعارف، وكذلك ما قاله في الربط والتمييز بينها، اذ الكشف الذي يحصل للأنبياء ليس هو الكشف الذي يحصل للأولياء والأصفياء ، فمرتبة الأول أعلى مرتبة من الثاني ، الا أن هناك تشابها بين الإلهام لدى الأنبياء والإلهام لدى الأولياء وهذا التشابه بينه الغزالي بقوله ولم يفارق الوحي الإلهام في شيء من ذلك بل في مشاهدة الملك المفيد للعلم ، فان العلم يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة[30] .
اذن فالكشف عند الأولياء يمثل في الإدراك الخطوة الحاسمة بعد عملية الاكتساب والتعلم ، وهو بهذا المعنى يمثل مستوى من مستويات ادراك حقيقة الأشياء في الكون وهذا المستوى اشمل وأعمق من مستوى العلماء الذي يتم تحصيله عن طريق الاستدلال فمستوى الإدراك الذي يتأتى بالإلهام أفضل من مستوى الادراك الذي يتأتى بالاستدلال واقل من مستوى الإدراك الذي يحصل عن طريق الوحي.
اذن فاسمى معرفة يمكن للإنسان الوصول اليها هي المعرفة عن طريق الإلهام بحيث ان حقيقة الاشياء في هذا المستوى من الادراك تبدو عما هو مألوف ومعروف في واقع الناس ، وهذه الصيغة الكلامية الغير عادية هي ارقى صيغة يمكن للبشر الوصول اليها ، ارقى صيغة واسمى معرفة من غير ان ندخل الانبياء والرسل[31] .
وإن حاصل هذه المعرفة التي تتأتى بالإلهام ويختص بها الأولياء هي التي تمثل البعد الحقيقي للخطاب الصوفي في نظر الإمام الغزالي ، فطريق الالهام هو الذي يمثل ارقى واسمى معرفة.
ففي هذا الجانب الذي تحدث فيه الغزالي عن الخطابات الصوفية ، هو في نفس الوقت حديث عن نظرية المعرفة عند الصوفية ، إذ يظهر من خلال ما سبقت الإشارة إليه ان المعرفة الحقيقية في نظر بعض أهل التصوف ، هي المعرفة التي تتأتى بالإلهام وهو نور يقذفه الله في قلوب عباده الصالحين ، وطريق الإلهام اختص به أهل الله من المتصوفة.
الفكر التربوي في الإحياء
 خصص الإمام الغزالي عدة أبواب في كتابه الإحياء للحديث عن العلم وفضله وضرورته ، وقيمة العلماء وأهميتهم ، وقد عبر عن فهم متقدم وعميق للنفس البشرية ، وتحديدا لطرائق وأساليب تربية الطفل وتهذيبه كي ينمو نموا متوازنا جسديا وعقليا وأخلاقيا وجدانيا ، فكتاب الاحياء غني بآراء حول فضل العلم والتعلم والتعليم ، إذ يرى الغزالي ان صناعة التعليم أشرف الصناعات ، وقد استدل على ذلك بشواهد كثيرة من الكتاب والسنة . وللغزالي آراء في آداب المتعلم ووظائفه المختلفة ، ووظائف المرشد المعلم ، وللاطلاع على هذه الوظائف نشير إلى أنها موجودة في الجزء الاول من كتاب الاحياء.
فالغزالي بنى أكثر آراءه التربوية على نظرته إلى النفس البشرية ، وعلى إمكانية قبول الأخلاق للتغيير، كما يدحض آراء القائلين بعدم إمكانية تذيب الاخلاق وتحسينها . كما يدرك الغزالي بما له من حس صافي مرهف أن تربية الأطفال تهدف أساسا إلى تهذيبهم أخلاقيا ، لأن التهذيب الأخلاقي هو غاية كل تربية ، وإذا كانت التربية هي عملية إحداث تغيرات إيجابية في سلوك الفرد ، فإن أهم الطرائق التي يرى الغزالي وجوب اتباعها في هذا المجال ، هي طريقة معاناة العمل الخلقي من المتعلم بالذات ، فهو لا يكتفي بالمطالبة بإرشاد المتعلم ونصحه ، بل لا بد لهذا المتعلم من أن يروض نفسه ويدربها على فعل الاعمال الحميدة الخيرة، ويلح الغزالي على دور الممارسة العملية ويسميها الاعتياد  إذ يؤكد مرارا أنه " بالاعتياد والتعليم تكتسب الرذائل ، وكما ان البدن في الابتداء لا يخلق كاملا وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء ، فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال ، وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الاخلاق والتغذية بالعلم[32]
فالغزالي يرى ان أسلم الطرق لتربية المتعلم تربية أخلاقية ، إنما تحصل بالرياضة ، بالمعاناة الذاتية بالمران وبالعمل .
ولدى الغزالي باب كبير في تهذيب الاخلاق ، وهو غاية في الدقة والوضوح والواقعية التربوية ، سبق من خلال الاراء التربوية فيه ، كثيرا من أعلام الفكر الغربي التربوي المعاصر فقد دل الغزالي على فهمه العميق لطبيعة الطفل ونفسيته ، حيث يرى التبكير في تعويد الطفل الخصال الحميدة لأن "الصبي أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من
كل نقش وصورة ، وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال به إليه2
هذا بالإضافة إلى مجموعة من الآراء التي قالها الغزالي في الاحياء والتي تلخص فكره التربوي ، والتي لم نتطرق إليها ، وذلك اختصارا لا تقصيرا .
وعموما ، نستطيع القول ان جوهر نظرية الغزالي التربوية ، إنما يستند على أن الطفل يولد كالعجينة التي تأخذ صورتها النهائية بتأثير الاسرة والاقران والمربين ومؤسسات المجتمع المختلفة ، وهو تبعا لهذا يقبل الخير والشر على حد سواء .

خاتمة
يتضمن كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ، مجموعة من الآراء والأفكار القيمة والرائعة ، فهذا الكتاب جدير بأن يبحث فيه من طرف علماء في كثير من التخصصات مثل علم النفس ، علم الاجتماع وغير ذلك من العلوم كالفقه والتصوف اللذان أشرنا لهما فيما سبق ، ويجب التذكير إلى ان ما أشرنا له في هذا البحث يضل قاصرا غير شامل لما احتوى عليه كتاب الاحياء من الاراء في شتى العلوم ، وإنما هي محاولة منا إلى بيان ما استطعنا من الآراء والأفكار والتي ظهرت بشكل بارز في الإحياء .












لائحة المصادر والمراجع

1-   الغزالي (ابي حامد) : إحياء علوم الدين ، دار الفكر ، بيروت- لبنان ، طبعة منقحة سنة 1994م
2-   الغزالي ( ابي حامد) : المنقد من الضلال ، دار الفكر ، بيروت - لبنان ، الطبعة الثانية سنة 2005م
3-   كوربان (هنري) : تاريخ الفلسفة الإسلامية ، ترجمة نصير مروة وحسن قبيسي ، منشورات عويدات ، بيروت- لبنان
4-   كارادوفو(البارون): الغزالي ، ترجمة ، عادل ازعيتر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ، الطبعة الثانية 1984م
5-   الجابري (عابد) : مكونات فكر الغزالي ، مجلة كلية الاداب جامعة محمد الخامس بالرباط ، سلسلة ابحاث ومناظرات رقم10 ، سنة 1988- ابو حامد الغزالي :دراسات  في فكره وعصره وتاثيره
6-   مؤنس(حسن) : نصوص سياسية عن فترة الانتقال من المرابطين الى الموحدين ، مجلة المعهد المصري للجراسات الإسلامية في مدريد ، العدد 3 سنة 1955





[1] - الغزالي (ابي حامد) : احياء علوم الدين ، دار الفكر ، بيروت- لبنان ، ط سنة 1994م ، ج1 ص4
[2] - الاحياء ج1 ص5
[3] - كوربان (هنري) : تاريخ الفلسفة الاسلامية ، ترجمة نصير مروة وحسن قبيسي ، منشورات عويدات –بيروت-لبنان ، ص 273
[4] - كارادوفو(البارون): الغزالي ص 49
[5] - الغزالي ( ابي حامد) ، المنقد من الضلال ، دار الفكر ، بيروت –لبنان ، سنة 2005 ، ص 8-9
[6] - كارادوفو : الغزالي ، ص 180
[7] - بدوي (عبد الرحمان) : اوهام حول الغزالي ، مجلة كلية الاداب جامعة محمد الخامس بالرباط ، سلسلة ابحاث ومناظرات رقم10- ابو حامد الغزالي : دراسات في فكره وعصره وتاثيره ، ص 244
[8] - المنقد من الضلال ، ص 9
[9] - نفسه، ص 41
[10] - كارادوفو ، ص 181
[11] - الاحياء ج1 ص 5
[12] - مؤنس(حسن) : نصوص سياسية عن فترة الانتقال من المرابطين الى الموحدين ، مجلة المعهد المصري للجراسات الاسلامية في مدريد ، العدد 3 سنة 1955 ص113
[13] - الغزالي : احياء علوم الدين ، ج 1 ص 10-11
[14] - الغزالي ، الاحياء ج1 ص17
[15] - نفسه ، ص 29
[16] - الاحياء : ج1 ص30
[17] - الاحياء ج3 ص40-41
[18] - الاحياء ، ج4 ص 112
[19] - نفسه
[20] -  الطريسي (احمد) :مستويات اللغة عند ابي حامد  الغزالي ، مجلة كلية الاداب – الرباط ( ندوة ابو حامد الغزالي : دراسات  في فكره وعصره وتاثيره ) ص 299 
[21] - نفسه ، ص 299
[22] - الغزالي ( ابوحامد) : احياء علوم الدين ، ج 1 ص28
[23] - احياء علوم الدين : ج 1 ص28
[24] - نفسه ص 16
[25] - نفسه ج2 ص17
[26] - الغزالي (ابو حامد) : المنقد من الضلال ، ص 140
[27] - نفسه
[28] - الاحياء ، ج2 ص 17
[29] - نفسه
[30] - المنقد من الضلال ، ص 140
[31] -       الغزالي :دراسات في فكره ، ص 302
[32] - إحياء علوم الدين للغزالي ، ج 3 ، ص 61
2: إحياء علوم الدين للغزالي ، ج 3 ، ص 72

khan socio
كاتب المقالة
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع التصوف والظاهرة الدينية .

جديد قسم : articles

إرسال تعليق