الخطاب الصوفي في نظر الغزالي
من خلال الاطلاع على أنواع الخطابات الصوفية، نجد نوعا
من التماثل في اللغة والمصطلحات التي تتكرر في جميع الخطابات الصوفية ، أما بعض نقط
التمايز فهي ما سنعرض له في الحديث عن موقف الغزالي من الخطاب الصوفي وهل كل خطاب
يمثل مقاما في مستوى الكلام .
فالخطابات الصوفية تختلف عن باقي الخطابات الأخرى ، إذ
نجدها تتميز بصيغة كلامية غير عادية، هذه الصيغة الكلامية هي أحاديث عن العشق الإلهي
والحلول والاتحاد والرؤية والمشاهدة والمشافهة ومدركات أخرى بعيدة عن صيغ كلام
الناس في واقعهم الذي يحكمه المنطق وتغلب عليه الحسية والعقلانية2،
وهذه الصيغ الكلامية التي تعتري الخطابات الصوفية لا تهدف بالضرورة إلى نقل رسالة
محشوة بالأفكار والمضامين بقدر ما تعبر عما تعيشه النفس من أحوال ومقامات ، أما من
ناحية بنية هذه الخطابات الدلالية فإنها تمثل لونا من الرموز والإشارات .
إن مصدر المعرفة عند المتصوفة هو الكشف والإلهام ، ويتأتى
ذلك بنور يقذفه الله في قلب المؤمن الصالح ، فلغتهم ليست لغة الوصف ، بل هي لغة
الكشف ، فهذه الصيغ الكلامية غير المألوفة تكشف عن معانات وأحوال النفس لا عن الأقوال
، كما تكشف عن واقع مرتفع عن واقع الناس ومنطقهم ونظرتهم إلى الكون والأشياء ، ذلك
الواقع غير العادي والموسوم بالخوارق والمستحيلات ... واقع يدهش العقول ويشوش
القلوب.
أنواع الخطابات الصوفية
ليس كل
خطاب صوفي يمثل مقاما في مستوى الكلام في نظر الغزالي ، فالخطابات الصوفية فيها ما
يمثل مقاما كلاميا أو مستوى من مستويات الحقيقة ، وفيها ما يمكن أن نسميه بلغو
الحديث والكلام ، ولا يمثل أي مستوى من مستويات الحقيقة ، وهذا الصنف الثاني هو ما
سماه الغزالي بالشطح في هذا الشأن .
"صنفين من الكلام أحدثه بعض الصوفية احدهما :
الدعاوي الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى ، والوصال المغني عن الأعمال
الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية
والمشافهة بالخطاب ، فيقولون: قل لنا :كذا ، وقلنا: كذا ، ويتشبهون في بالحسين بن
منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاق كلمات من هذا الجنس ، ويستشهدون بقوله "أنا
الحق" وبما حكي عن أبي يزيد البسطامي انه قال ك "سبحاني" ، وهذا فن
من الكلام عظيم ضرره في العوام . فان هذا الكلام يستلذه الطبع ، اذ فيه البطالة من
الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال ، فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم"4
.
هذا النص يتحدث عن زمرة من المتصوفة العوام الذين لا تمثل
خطاباتهم أي مستوى من مستويات إدراك الحقائق ، وسبب تشبه هؤلاء بالحلاج والبسطامي
في دعوى الاتحاد والمشافهة وغير ذلك من الكلامات التي لا يقبلها العقل والشرع هو
جهلهم بالدين وبالعلوم ، ولتوضيح الصورة أكثر عن هذا الوضع من الخطابات نورد كلام
الغزالي عن الصنف الثاني من الشطح .
يقول :"... والصنف الثاني من الشطح ، كلمات غير
مفهومة ، لها ظواهر زائفة وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل ، وذلك إما أنها
غير مفهومة عند قائلها ، بل يصدرها عن خبط في عقله ، وتشويش في خياله لقلة إحاطته
بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر ، وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على
تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره ، لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق
التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة ، ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه
يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان5 .
أن الشطح بصنفيه عند الغزالي هو فن من الكلام ، إلا أن
هذا الفن لا يمثل مقاما في مستوى الكلام ، والغزالي ينكر هذا النوع من الخطابات
ويصف أصحابه إما بعدم بالتشويش في أذهانهم أو بالخطأ في إيصال تلك المعاني ،
وبالتالي يضل كلامهم غير مفهوم وليس وراءه طائل ، فهذا النوع من الكلام الذي أتى
على لسان بعض المتصوفة حسب تعبير الغزالي لا يمت للخطاب الصوفي بأية صلة والذي
سيعطي له الغزالي بعده الحقيقي .
البعد الحقيقي للخطاب الصوفي
يستشهد الغزالي في معرض حديثه عن النوع الثاني من
الخطابات الصوفية والذي يمثل مستوى من مستويات الإدراك الحق ، بحديثين شريفين :
قال الرسول الأكرم صلى الله عليه واله "ما حدث أحدكم قوما بحديث لا يفهمون إلا
كان فتنة عليهم" ، ويقول أيضا"كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما
ينكرون" ، ويستشهد الغزالي أيضا بقول عيسى عليه السلام "لا تضعوا الحكمة
عند غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ن كونوا كالطبيب الرفيق يضع
الدواء في موضع الداء" .
إن الصيغ الكلامية الموجودة في الخطابات الصوفية هي صيغ
غير عادية وغير مألوفة كما سبق واشرنا إلى ذلك . وهذه من نقط التماثل بين الخطابات
الصوفية . وقبل أن نتحدث عن هذه الصيغة بشيء من الدقة ، وما الخطابات الصوفية التي
تحمل نوعا من التمايز بين خطابات المتصوفة ، والتي يقبلها الغزالي ولا ينكرها .
سنسوق إذن تصور الإمام الغزالي للعالم ودرجاته وطرق
المعرفة – والعالم في نظره على أربع درجات :
-
عالم اللوح
المحفوظ
-
عالم الوجود
الحقيقي
-
عالم الوجود
الخيالي
-
عالم الوجود
العقلي
يقول الغزالي في هذا الشأن إن "الله كتب نسخة
العالم من أوله إلى أخره في اللوح المحفوظ ، ثم أخرجه على وفق تلك النسخة ،
والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأذى منه صورة أخرى إلى الحس والخيال ، ثم يتأذى
من خياله اثر إلى القلب ، والحاصل في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال ،
والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه خارجا من خيال الإنسان وقلبه ،
والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ"6
.
والمعارف تتم في القلب ، وللقلب بابان – كما يقول
الغزالي :
-
باب مفتوح إلى
عالم الملكوت (الغيب)
-
وباب مفتوح إلى
الحواس الخمس (عالم الشهادة)
وعالم الشهادة أيضا يحاكي عالم الملكوت نوعا من المحاكاة
، والباب المفتوح إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوح المحفوظ فنعلمه علما يقينا بالتأمل
من عجائب القلب7 .
فإدراك حقائق العالم بهذه الدرجات ليس من استطاعة أي إنسان
كان ، يقول الغزالي"تنكشف للنبي الأشياء في اللوح المحفوظ أو أكثرها"8
؛ فالنبي صلى الله عليه واله إذا نظرنا إلى المرتبة التي يحتلها في الإدراك نجدها أعلى
مرتبة ، وبالأحرى تنكشف له بعض الأشياء أو أكثرها في اللوح المحفوظ ، فما بالك
بالولي الذي يحتل مرتبة أدنى بكثير من مرتبة النبي (ص) ، وهكذا يتسلسل الأمر .
فالخطاب الصوفي الذي يقبله الغزالي يجب أن يمثل مستوى من
مستويات الإدراك الحق ، وهذا المستوى هو أرقى واشمل من مستوى الحس ، وكذا مستوى
العقل ، إلا أن الطريق إليه ليس الاستدلال وليس الوحي ، وإنما هو شيء آخر سنعرفه من
خلال كلام الغزالي .
يقول الغزالي "اعلم ان العلوم التي ليست ضرورية ، وإنما
تحصل في القلب في بعض الأحوال يختلف الحال في حصولها . فتارة تهجم على القلب كأنما
ألقي فيه من حيث لا يدري ، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم ، فالذي يحصل لا
بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاما . والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتبارا
واستبصارا . ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى ما لا
يدري العبد انه كيف حصل؟ ومن أين حصل؟ والى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد
ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب ، الأول يسمى إلهاما ونفثا في الروح ،
والثاني يسمى وحيا ويختص به الأنبياء ، والأول يختص به الأولياء والأصفياء ، والذي
قبله هو المكتسب بطريق الاستدلال يختص به العلماء"9.
تتحقق المعارف في نظر الغزالي بطرق ثلاث طريق الاستدلال
ن وطريق الإلهام ، وطريق الوحي10؛ وإذا ما أردنا التركيز على
طريق الإلهام الذي يختص به الأولياء والأصفياء ، واستبعدنا طريق الاستدلال والوحي
، وهذا الاستبعاد لا يعني أن الطرق الثلاثة التي تتحقق بها المعارف تنفصل عن بعضها
تمام الانفصال ، فهناك نقط الربط بينهما ، وهذا الجانب لم يغفل عنه الغزالي وعاد
ليربط بين هذه الطرق.
وفي ربط الغزالي بين طريق الأولياء والعلماء يقول "
فلم يفارق الإلهام الاكتساب في نفس العلم ولا في محله ولا في سببه ، ولكن يفارقه
من جهة زوال الحجاب ، فان ذلك ليس باختيار العبد"11 ،
وكذلك الشأن بالنسبة للأولياء والأنبياء فالمراتب تختلف – يقول الغزالي"...
ولم يفارق الوحي الإلهام في شيء من ذلك بل في مشاهدة المفيد للعلم ، فان العلم
يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة" .
فطريق الإلهام إذ هو أول طريق الاكتساب والتعلم ، إلا
أن هناك إشكالا في هذا الشأن ينبغي للغزالي أن يجيب عليه ، وهو إن بعض الصوفية
يؤكدون على أن المجاهدة بغير علم كفيلة بتحقيق المعارف؛ ويجيب الغزالي على هذا الإشكال
بقوله :
"....وفي
أثناء المجاهدة قد يفسد المزاج ويختلط العقل ويمرض البدن ، وإذا لم تتقدم رياضة
النفس وتهذيبها بحقائق العلوم ، نشبت بالقلب خيالات فاسدة تطمئن النفس إليها مدة
طويلة إلى أن يزول وينقضي العمر قبل النجاح فيها ، فكم من صوفي سلك هذا الطريق ثم
بقي في خيال واحد عشرين سنة ، ولو كان أتقن العلم من قبل لانفتح له وجه التباس ذلك
الخيال في الحال ، فالاشتغال بطريق التعلم أوثق وأقرب إلى الغرض12
.
وقد رد الغزالي في هذا الشأن على بعض المتصوفة الذين
اعتمدوا الإلهام دون أن يكون لهم ولو أدنى درجة من الإلمام بالعلوم ،
يقول:"فاعلم أن ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية فلذلك لم
يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون والبحث عن الأقاويل والأدلة
المذكورة ، بل قالوا : الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق
كلها والإقبال بكنه الهمة على الله .... فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض
على صدورهم النور بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب بل بالزهد في الدنيا... وأما
ذوو الاعتبار فلم ينكروا وجود هذا الطريق وإمكانه وإفضائه إلى هذا المقصد على النذور
، فانه أكثر أحوال الأنبياء والأولياء ، ولكن استدعوا هذا الطريق واستنبطوا ثمرته واستبعدوا
استجماع شروطه"13 .يتضح من خلال هذه النصوص التي تحدث فيها
الغزالي عن الطرق الثلاثة التي تتحقق بها المعارف، وكذلك ما قاله في الربط
والتمييز بينها ، إذ الكشف الذي يحصل للأنبياء ليس هو الكشف الذي يحصل للأولياء والأصفياء
، فمرتبة الأول أعلى مرتبة من الثاني ، إلا أن هناك تشابها بين الإلهام لدى الأنبياء
والإلهام لدى الأولياء وهذا التشابه بينه الغزالي بقوله ولم يفارق الوحي الإلهام
في شيء من ذلك بل في مشاهدة الملك المفيد للعلم ، فان العلم يحصل في قلوبنا بواسطة
الملائكة14 .
إذن فالكشف عند الأولياء يمثل في الإدراك الخطوة الحاسمة
بعد عملية الاكتساب والتعلم ، وهو بهذا المعنى يمثل مستوى من مستويات إدراك حقيقة الأشياء
في الكون وهذا المستوى اشمل وأعمق من مستوى العلماء الذي يتم تحصيله عن طريق
الاستدلال فمستوى الإدراك الذي يتأتى بالإلهام أفضل من مستوى الإدراك الذي يتأتى
بالاستدلال واقل من مستوى الإدراك الذي يحصل عن طريق الوحي.
إذن فأسمى معرفة يمكن للإنسان الوصول إليها هي المعرفة
عن طريق الإلهام بحيث ان حقيقة الأشياء في هذا المستوى من الإدراك تبدو عما هو مألوف
ومعروف في واقع الناس ، وهذه الصيغة الكلامية الغير عادية هي أرقى صيغة يمكن للبشر
الوصول إليها ، أرقى صيغة وأسمى معرفة من غير أن ندخل الأنبياء والرسل15.
وخلاصة القول إن المعرفة التي تتأتى بالإلهام ويختص بها الأولياء
هي التي تمثل البعد الحقيقي للخطاب الصوفي في نظر الإمام الغزالي ، فطريق الإلهام
هو الذي يمثل أرقى وأسمى معرفة ، أما ما يسميه الغزالي بالشطح فلا يمت للخطاب
الصوفي بأيه صلة .
الهوامش
- الجابري
(عابد) : مكونات فكر الغزالي ، مجلة كلية الآداب جامعة محمد الخامس بالرباط ،
سلسلة أبحاث ومناظرات رقم 10، ص 55
- الطريسي (احمد) :مستويات اللغة عند أبي
حامد الغزالي ، مجلة كلية الآداب – الرباط
( ندوة أبو حامد الغزالي : دراسات في فكره
وعصره وتأثيره ) ص 299
–
نفس المرجع، ص 299
- الغزالي (ابي حامد) : إحياءعلوم الدين ، دار الفكر ، بيروت- لبنان ، طبعة منقحة سنة 1994م ،
ج 1 ص28
- نفس المصدر ،ج 1 ص28
- نفس المصدر ،ج2 ص 18
– نفس
المصدر ، ص 19
-
نفس المصدر ، ص 17
- نفس
المصدر ، ص 16
0- نفس
المصدر ، ج2 ص17
11 - الغزالي ( أبي
حامد) : المنقد
من الضلال ، دار الفكر ، بيروت - لبنان ، الطبعة الثانية سنة 2005م،
ص 140
12-
الإحياء ، ج2 ص 17
13-
نفس المصدر ، ص 21
14-
المنقذ من الضلال ، ص 140
15-
الغزالي :دراسات في فكره ، ص 302
تعليقات: 0
إرسال تعليق