-->

المشاركات الشائعة

كيف تنبني الولاية الصوفية داخل النسيج الاجتماعي

كيف تنبني الولاية الصوفية داخل النسيج الاجتماعي يقدم الولي نفسه أو مشروعه في النسق الصوفي كبديل ثقافي ديني سياسي لما يعتمل في الواقع، فالولاية هنا تحتمل بعدا احتجاجيا على ما هو سائد ويتمظهر ذلك في الهروب من الواقع وانتقاده واللجوء الى الجبال وأطراف المدن كرد فعل لرفظها لما هو داخل المجتمع باعتباره يمثل المدنس واللا صلاح في مقابل الصلاح الذي يمثله الولي داخل وسطه. ان المنفى المجالي الذي يختاره الولي يمكن اعتباره كمخاض وولادة ثانية، فكل تجربة صلاح في هذا الاطار تتأسس بداية على وجوب القطيعة مع الدنيوي بغية الاتصال بالقدسي، فالانفصال هو ما يثمر الاتصال، فالمنفى المجالي الذي يختاره الولي يمكن اعتباره هنا كرحم للولادة بعد حمل افتراضي ينبني على ترويض النفس ومجاهدتها حتى تتفوق على الدنيوي والمدنس وتظفر بارتباطها بالمقدس والمتعالي. فالولاة ليست مجرد هجرة نحو السماء والمتعالي، انها موقف ورد فعل لما يعتمل في الارض، فالتناقضات القائمة بين الكائن والممكن دنيويا هو العماد في نشأة بركة الأولياء، وعزلة الولي وانفصاله عن الدنيوي هو ما يفتح المجال امام فيض البركة وظهور الكرامة. إن حظور ال

المقدس والطقوس في السوسيولوجيا الدينية

المقدس والطقوس في السوسيولوجيا الدينية تشير عدة تعريفات الى اعتبار المقدس دالا على ما هو ديني وطقوسي، أو متعلقا بالرمزي في مقابل المادي، والمتعالي في مقابل السفلي. ففي حين يحضر المقدس كمتعال وكمفارق ويحتل مكانة عليا في النسق الرمزي للوقائع والتمثلات تبعا لتصور العالم القديم، بل إنه يصير دالا على الالهي في مقابل البشري والدنيوي. أما إميل دوركهايم فنجده يقترح زوجا تقابليا يتكون من المقدس والمدنس للفهم والتفسير، وان الدين هو المؤسسة التي تفصل بين المقدس والمدنس، كما يعتبر ان المقدس هو السمة الاساسية لتعريف الظاهرة الدينية، علما ان القداسة في حد ذاتها تنتج عن المجتمع نقسه. أما مارسيا إلياد فقد أكد على وجوب الخروج من فخ التعارض بين المقدس والمدنس على اعتبار المقدس غير متماثل مع الالهي ولا مقابل للدنيوي، وان المقدس هو تجلي للاهلي في الزمان والمكان، والطقوس هي التي تضمن إمكانية العبور من الزمن العادي الى الزمن القدسي. في حين يرى روجيه كايوا ان المقدس يحيل على خاصية ثابتة أو عابرة تتمظهر في بعض الاشياء كأدوات العبادة والأمكنة والأزمنة وغيرها، فالمقدس برأيه ليس صفة تمتلكها

مدخل الى الكتابة المناقبية المؤلفة في أولياء الصوفية

مدخل الى الكتابة المناقبية المؤلفة في أولياء الصوفية يندرج هذا المقال  في دراسة نوع من أنواع الفكر الديني التاريخي التي أفرزتها الحضارة العربية الإسلامية، سواء في مشرقها العربي أو في غربها الإسلامي، والمقصود هنا ما اصطلح على تسميته بــ «أدب المناقب». يتطلب البحث في هذا النوع من الكتابة الإجابة على كثير من التساؤلات التي تفرض نفسها بإلحاح من قبيل: ما المقصود من عبارة أدب المناقب، وهل هناك تعاريف محددة لهذا النوع من الكتابة؟ ما علاقته بالتاريخ؟ متى وكيف وأين ظهر هذا النوع من الكتابة؟ وما العوامل التي ساعدت على ظهوره وازدهاره؟ وكيف تلازمت ولادته مع ظهور رجال اتسموا بالصلاح والولاية؟ ما موضوعه، وما منهاجه، وما طبيعة القضايا التي يطرحها؟ كيف يمكن تحليل هذا النوع من الكتابة وما الطرق المنهجية الكفيلة بتحليله وتركيبه وتقريبه إلى القارئ؟... أسئلة كثيرة يطرحها موضوع أدب المناقب، لكن الإجابة عنها تستوجب بحثا مستقلا، والمقام هنا يفرض علينا عدم البحث في الكثير من قضايا وإشكالات هذا النوع من الكتابة، لذا سنحاول هنا الاقتصار على إعطاء صورة عامة حول طبيعة الكتابة المنقبية. في القرن الث

بداية التصوف وظهور الطرق الصوفية بالمغرب

بداية التصوف وظهور الطرق الصوفية بالمغرب مثل التصوف المغربي صورة حية ناطقة للتصوف الاسلامي السني عامة، ولما تركته تظريات التصوف المغربي من أثار عميقة في الفكر الصوفي المشرقي، وتاريخ الحركة الصوفية لا يشمل الجانب الثقافي والروحي فحسب بل يتجاوزه الى الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكذلك كان للتصوف المغربي أثر كبير في توجيه وتغيير كافة أوجه الحياة في تلك المرحلة. وعلى الرغم من ظهور التصوف في القرن الثاني الهجري وانتشاره في الشرق العربي إلا ان المجتمع المغربي كان بمعزل عنه ولم يعرفه أهله كما عرفه اخوانهم المشارقة حتى أوائل القرن الخامس الهجري أو قبله بقليل، وذلك في عهد المرابطين. وقد بدأ التصوف المغربي مبنيا على الزهد والتقشف والنسك وحمل النفس على المجاهدة في الطاعة والوقوف مع ظاهر الشرع دون تغلغل في علوم المكاشفات والحقائق، لذلك لم يحتدم في المغرب في ذلك العصر صراع بين الفقهاء والمتصوفة كما حدث في الشرق من قبل، لبعد التصوف المغربي عما يخالف ظاهر الشريعة من منظور الفقهاء. في منتصف القرن الخامس الهجري دخلت بعض كتب التصوف للمغرب وفوجئ العلماء في آواخر هذا القرن بكتاب إ
جميع الحقوق محفوظة للتصوف وسوسيولوجيا الظاهرة الدينية div>الملكية الفكرية محفوظة لمؤلف الكتاب

التصوف الإسلامي بالمغرب، المرجع والخصوصية

التصوف الإسلامي بالمغرب: المرجع والخصوصية 

التصوف الإسلامي بالمغرب، المرجع والخصوصية


   يقول الدكتور إيراهيم القادري بوتشيش: إن " التصوف المغربي عندما اختار التصوف السني الداعي إلى الاعتدال في تحلية السلوك، لم يكن ساذجا في اختياره، ولا بسيطا في فكره غير قادر على الخوض في القضايا الفلسفية، بل كان مجاهدا لنفسه.. مهتما بالرقائق اقتداء بأثر السلف الصالح"[10]، في انتقاء خيار الخُلق، كما ينتقى أطايب التمر[11]،  وكان مرابطا صابرا في الثغور، مشددا على الجانب الأخلاقي أكثر من غيره[12]. وقد كان التصوف المغربي عبر العصور والأزمنة التي مر بها، يستهدف إصلاح السلوك اليومي للمغاربة في شكله الأخلاقي والرقائقي، تحقيقا لرسالة الإسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فلا عجب، أن يميل المغاربة لأسمى ما في الإسلام، وأفضل ما في الدين، وهو محاسن الأخلاق في السلوك ومقام الإحسان في العبادة. ومن ثم، يعتبر هذا الاختيار منسجما مع مفهوم الوسطية والاعتدال الذي يعني الخيرية والأفضلية وأحسن ما في الأمور كلها.

   تمسك صوفية المغرب بالكتاب والسنة، وجب التساؤل: من أين استمد صوفية المغرب وسطيتهم واعتدالهم؟، والملاحظة المبدئية وإن كانت تقر باستلهام تلك الوسطية من الكتاب والسنة، إلا أن الأمر يقتضي بيانا وتدقيقا. بناء على هذا، فإن مصادر الوسطية عند صوفية المغرب مستمدة من أصول الإسلام: القرآن والسنة، وسيرة الصحابة، وعمل بعض كبار التابعين وعلماء الأمة كالإمام الجنيد. وفيما يلي، تفصيل ذلك:

1-             القرآن الكريم
يبدو أن المصدر الأساس للإلزام الخلقي في الإسلام، أي ذلك السعي الطموح لتحلية النفس بمكارم الأخلاق وتزكيتها بالفضائل، ليس هو اللذة والمنفعة، ولا العقل ولا الضمير، ولا العرف ولا المجتمع، ولا غير ذلك، مما ذهبت إليه مدارس الفلسفة الخلقية أو الروحية، وإنما مصدر الإلزام، ومقياس والحكم الخلقي هو الوحي الإلهي[32]، أي القرآن الكريم بالأساس، ثم السنة، باعتبارها شارحة للذكر الحكيم. فالحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع.. ومن ثم، فقد التمس صوفية المغرب الوسطية من الكتاب العزيز، ما دامت الوسطية تدل على أجود ما في الأمور.
من وسطية القرآن، أنها أقرت التفاوت الفطري والعملي بين الناس، فليس كل الناس في درجة واحدة من حيث قوة الإيمان، والالتزام بما أمر الله به من أوامر، والانتهاء عما نهى عنه من نواه، والتقيد بالمثل العليا.. فهناك مرتبة الإسلام، ومرتبة الإيمان، ومرتبة الإحسان وهي أعلاهن. كما أشار إلى ذلك حديث جبريل المشهور، ولكل مرتبة أهلها؛ فهناك الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات. كما أرشد إلى ذلك القرآن الكريم. فالظالم لنفسه هو المقصر، التارك لبعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات. والمقتصد هو المقتصر على فعل الواجبات وإن ترك المندوبات، وعلى ترك المحرمات وإن فعل المكروهات. والسابق هو الذي يزيد على فعل الواجبات، أداء السنن والمستحبات، وعلى ترك المحرمات والشبهات والمكروهات، بل ربما ترك بعض الحلال خشية الوقوع فيما يحرم أو يكره، وإلى هؤلاء يشير قوله تعالى: " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ"[33]. وقد استمد صوفية المغرب هذه المعاني، وتمثلوها في سلوكهم وإبداعاتهم.
انطلاقا من قوله تبارك وتعالى: " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً"[34].  يظهر أن أمة الإسلام، شهداء على الناس، وهو ما  يثبت لهم وصف الخيرية والعدالة. والعدل الخيار يتضمن الدلالة على كونهم بين الإفراط والتفريط. قال الطبري (ت 310 هـ): " وأرى أن الله تبارك وتعالى إنما وصفهم بأنهم وسط، لتوسطهم في الدين؛ فلا هم أهل غلو فيه - غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقولهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هم أهل تقصير فيه - تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به - ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها "[35] . ومن فوائد هذه الآية، الإرشاد إلى أن كل خير ينفع الناس، فقد أمر الله به، ودعا إليه، وكل شر وفساد، فقد نهى الله عنه، وأمر بتركه، وهذا ضرورة كون هذه الأمة موصوفة بالخيرية، وأنها هديت إلى الصراط المستقيم.
2-             السنة النبوية
   يبدو أن "الصوفية في الأصول، لا يتميزون عن أهل السنة بشيء، وأنهم في الفروع مقتدون بالمذاهب الفقهية السنية الرائجة في أوطانهم. فالصوفية بكل تأكيد ضمن أهل السنة والجماعة، كما نص على ذلك أئمتهم، وكما نص على ذلك غيرهم، من مؤرخي العقائد والفرق، المهتمين بتعداد فرق هذه الأمة، وبيان الفرقة الناجية"[36]. وهكذا، فقد أقر أكثر من عالم، سنية الصوفية ونهلهم من معين السنة، فهذا الإمام الشاطبي يصف الصوفية بأنهم: "هم المشهورون باتباع السنة"[37]. فلا عجب، أن يستمد صوفية المغرب وسطيتهم من السنة النبوية، باعتبار هذه الأخيرة شارحة للقرآن الكريم ومعززة له، وتضم أسمى مظاهر الوسطية التي تغري بتبنيها.
   تعتبر الوسطية من أهم ما استمده الصوفية من السنة النبوية. وقد حفلت هذه الأخيرة بنصوص عديدة تؤكد معنى الوسطية والاعتدال، وعدم الغلو في الدين والحياة، من ذلك: نهيه صلى الله عليه وسلم عن الغلو في طلب الدنيا، فلم يأمر بترك الدنيا، والخروج إلى الفيافي، كما لم يأمر بالاستغراق فيها، إنما أمر بالتوسط. فالدنيا بلغة يتبلغ بها الإنسان للآخرة، يأخذ منها بما أحله الله سبحانه وتعالى، ويعيش فيها فيما أباحه الله، ويستعد بذلك كله للآخرة، يقول عز من قائل: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"[38]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة"[39]. والمُشَادَّةُ بالتشديد: المغالبة، يقال: شَادَّهُ يُشَادُّهُ مُشَادَّةً إذا قَاوَاهُ، والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق، إلا عجز وانقطع فيغلب. والحديث نص في أن الدين يسر، وأن الدين قصد، وأخذ بالأمر الوسط، فلا يفرط المرء على نفسه، ولا يفرط. فخير الأمور الوسط. وقد بوب البخاري على الحديث في كتاب الأدب "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم " يسروا ولا تعسروا "[40]. وقد أخذ العلماء بهذا الأمر، فقعدوا قاعدة فقهية، هي من قواعد الفقه الكبرى[41]، والتي عليها مدار الفقه الإسلامي، وهي قاعدة: " المشقة تجلب التيسير".
  هكذا، يتبين أن السنة النبوية تزخر بمظاهر الوسطية، وأن هذه الأخيرة عمدة الدين وأساس السلوك الإسلامي. فلا عجب، أن يستمد صوفية المغرب وسطيتهم من السنة، كما استمدوها من القرآن. فهل وجدوا في حياة الصحابة رضوان الله عليهم ما أغراهم بتبنيه واتخاذه ضمن منهجهم الوسطي ؟.
3-             حياة الصحابة والتابعين
   من أمعن النظر في تعليقات وتوجهات بعض الصحابة في مقابل توجهات آخرين، لا يبعد أن يجد فيهم طائفة تمثل المنهج الصوفي.. وطائفة تمثل الفكر "السلفي-الوهابي".. حتى إن المرء ليعذر من ذهب مذهب الصوفية، أو من ذهب مذهب خصومهم، فلكل واحد من الفكرين أصل في عمل الصحابة[42]. والظاهر أن الصوفية حريصون على الاقتداء بالسلف الصالح من الصحابة والعلماء، حيث يصف الإمام الشاطبي الصوفية بقوله: "المقتدون بأفعال السلف الصالح، المثابرون في أقوالهم وأفعالهم على الاقتداء التام والفرار عما يخالف ذلك، ولذلك جعلوا طريقتهم مبنية على أكل الحلال واتباع السنة والإخلاص، وهذا هو الحق"[43].
 إذا انتقل المرء بالنظر من حياة الصحابة، إلى جيل التابعين وأتباعهم، يجد الممارسة الصوفية تبرز أكثر فأكثر في سلوكات أفراد كثيرين تضخم عندهم العمل كما، وانشغلوا بتصفيته من الشوائب كيفا، ونتجت عندهم أحوال غريبة، وأمور عجيبة[44]، ويأتي في طليعة هؤلاء أويس بن عامر القرني، وغيره. وقد وجد صوفية المغرب في سلوك هؤلاء الصحابة والتابعين، معينا لا ينضب من الأدلة والحجج التي أكدوا بها أحوالهم ومقاماتهم.
4-             الإمام الجنيد
   يكاد يجمع الباحثون[45] على أن "المقصود بالتصوف المغربي ليس هو مشاهد البدع والضلالات التي شابت أحيانا فترات وأشخاصا ومشايخ الطرقية، ولكنه التصوف المقتبس من المرجعية الجنيدية السنية". حيث يدخل تصوف الجنيد[46] ضمن الثلاثة مبادئ التي قام عليها الفكر المغربي، وهي؛ العقيدة الأشعرية والفقه المالكي وتصوف الجنيد, وقد لخصها الشيخ عبد الواحد بن عاشر في منظومته[47] حين قال:
في عقد الأشعري وفقه مالك       و في طريق الجنيد السالك
وعلق محمد الطالب بن الحاج[48] قائلا: "إن هذه الأسس أو الفنون متعلقة بأقسام الدين الثلاثة: الإيمان والإسلام والإحسان"[49]. فيتبين أن لمنهج الجنيد في السلوك الصوفي أهمية كبيرة عند صوفية المغرب، وإلا لما جعلوه قدوة لهم، وشعارا لتصوفهم الوسطي، القائم على اقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في وسطيته وعدله وكمال أخلاقه. حيث يقول الإمام أبو القاسم الجنيد: " إن كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته"[50]. كما أكد هذا الإمام على ضرورة العلم بالكتاب والسنة قبل الاقتداء، بل قبل الكلام في شأن من شؤون القوم، فنجده يعبر عن ذلك صراحة بقوله: " علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا"[51]. ومما يدل على تأثر صوفية المغرب بالجنيد قول الصوفي المغربي أبي عبد الله بن تجلان[52]: " من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في التصوف لأن منهجنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة".
  كما أثنى المتصوف الأديب أبو سالم العياشي كثيرا على الإمام الجنيد، حيث يقول: "طريق الجنيد رضي الله عنه وصحبه، طريق مقوم مقدم"[53]. وهي شهادات تؤكد نهل صوفية المغرب من سلوك الإمام الجنيد.
تركيب
   يتبين أن صوفية المغرب كانوا أذكياء في اقتباس وسطيتهم واعتدالهم، إذ اعتصموا بالكتاب والسنة، وعمل الصحابة، وعلماء الأمة في السلوك كالإمام الجنيد، فقامت وسطيتهم على بناء متين. فالتصوف المغربي أو الفقر بتعبير عموم المغاربة، تدور معظم قواعده على تلك الروافد، كما ابن قنفذ القسنطيني في كتابه: أنس الفقير وعز الحقير:
الفـقـر إن فكرت فيه رأيته          قد دار بين قواعــد متتالية
فاطلبه في القرآن أو في سنة        واعضده بالإجماع واترك تاليه[54]
هكذا يظهر أن وسطية واعتدال صوفية المغرب، منسجمة مع روح الشريعة الإسلامية وأصولها، ومحققة لروح الإحسان وجماليات السلوك ومطابقة للشريعة الاسلامية في جل اتجاهاتها ومناحيها.

المصادر والمراجع
 [10]  إبراهيم القادري بوتشيش، المغرب والأندلس في عصر المرابطين: الذهنيات، الأولياء، المجتمع ، دار الطليعة ، بيروت ، ط:1، 1993،
[11]  عبد الله بن المبارك، الزهد والرقائق، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، دون تاريخ،
[12]  طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط:2، 2005،
[13]  أحمد التوفيق، معلمة المغرب، سبق، ص: 2392.
[14]  عبد الكريم غلاب، أزمة الفكر المغربي، ضمن كتاب: من اللغة إلى الفكر، لنفس المؤلف، مطبعة دار النجاح الجديدة، البيضاء، ط:1، 1993 .
[15]  محمد المغراوي، من أعلام التصوف المغربي في القرن السادس الهجري: العالم الصوفي أبو محمد عبد الجليل القصري، الإشـارة ، ع: 15، السنة: 2، فبراير 20017.
[16]  محمد البركة، التصوف السني بالمغرب: مقدمات في الفهم والتأصيل، سبق، ص: 92.
 [18]  محمد فتحة، النوازل الفقهية والمجتمع: أبحاث في تاريخ الغرب الإسلامي، منشورات كلية الآداب ابن مسيك، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، 1999.
[19]  أحمد الوارث، الأولياء ودورهم الاجتماعي والسياسي في المغرب خلال القرن السادس عشر، رسالة لنيل الدراسات العليا في التاريخ، 1988، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، كلية الآداب ظهر المهراز-فاس، رقم القيد: 40/41.
[20]  محمد حجي، المؤسسات الدينية بالمغرب في القرنين السادس عشر والسابع عشر، المناهـل، ع: 18، يوليو 1980.
[21]  محمد البركة، التصوف السني بالمغرب: مقدمات في الفهم والتأصيل، سبق.
[22]  ابن قنفذ القسنطيني، أنس الفقير وعز الحقير، تحقيق: محمد الفاسي وأدولف فور، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، 1965،  الرباط.
[23]  أحمد ابن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، سبق.
[24]  الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق: سميح دغيم، بيروت،.
[25]  أحمد زروق، قواعد التصوف، تحقيق: عبد المجيد خيالي، دار الكتب العلمية، 2003.
[26] عبد الوهاب الفيلالي، الأدب الصوفي في المغرب إبان القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد – ظواهر وقضايا- ، أطروحة جامعية لنيل دكتوراه الدولة في اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز بفاس، 2001.
[27]  إبراهيم القادري بوتشيش، من تقديمه لكتاب: التصوف السني في تاريخ المغرب..، سبق.
[28] إبراهيم القادري بوتشيش، ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب، سبق.
[29]  أحمد زروق، كتاب الإعانة، تحقيق: علي فهمي خشيم، الدار العربية للكتاب، ليبيا-تونس، 1979.
[30]  أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، ج:1، طبعة بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، دون تاريخ.
[31]  نجلاء التجكاني، عوامل وحدة المذهب العقدي في المغرب، مـدارك (جريدة)، ع: 9، (18 دجنبر 2007-04يناير 2008).
[32]  علي محمد محمد الطلابي، الوسطية في القرآن الكريم، دار التابعين للنشر والتوزيع، القاهرة، ط: 1، 2001.
[33]  سورة فاطر، الآية: 32.
[34]  سورة البقرة، آية: 143.
[35]  تفسير الطبري، (3  / 626 - 627).
[36]  عبد السلام الغرميني، الصوفي والآخر: دراسات نقدية في الفكر الإسلامي المقارن، نشر: المدارس، الدار البيضاء، ط1، 2000.
[37] أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام،  سبق .
[38]  سورة القصص،  الآية: 77.
[39]  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان ، باب الدين يسر ، حديث رقم (39) ، ومسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، حديث رقم (2816).
[40]  البخاري العلم (69) ، مسلم الجهاد والسير (1734) ، أحمد (3/209).
[41]  ينظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص: 76. القواعد الفقهية الخمس الكبرى، والقواعد المندرجة تحتها، من مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام، ابن تيمية. 
[42]  عبد السلام الغرميني، الصوفي والآخر، سبق.
[43]  أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، سبق.
[44]  عبد السلام الغرميني، الصوفي والآخر.
[45]  إبراهيم القادري بوتشيش، ثقافة الوسطية في التصوف السني بالمغرب، 
[46]  أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي أبو العباس، (ت 297هـ). ينظر: طبقات الصوفية للسلمي، ص48 و155. وفيات الأعيان لابن خلكان. الأعلام للزركلي.
[47]  مختصر الدر الثمين والمورد المعين لمحمد الفاسي شرح ميارة على منظومة المرشد المعين على الضروري من علوم الدين لابن عاشر. 
 [48] من فقهاء المالكية بالمغرب (ت1273), ينظر: الأعلام للزركلي. ج6.
[49]  ينظر: حاشيته على شرح ميارة لمنظومة ابن عاشر.
[50]  القشيري، الرسالة القشيرية في علم التصوف، تحقيق: معروف زريق وعلي عبد الحميد، بيروت، 1990.
[51]  عبد العزيز عذاب المصيطف، تصوف ابن تيمية، دار الخيال، بيروت، ط:1، 2006.
[52]  أبو عبد الله بن تجلان، إثمد العينين ونزهة الناظرين في مناقب الأخوين، دراسة وتحقيق: محمد رابطة الدين، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، كلية الآداب بالرباط.
[53] أبو سالم العياشي، الرحلة العياشية، تحقيق: خالد سقاط، أطروحة جامعية لنيل دكتوراه الدولة في الأدب العربي. كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز فاس، 1999م
[54]  ابن قنفذ القسنطيني، أنس الفقير وعز الحقير.
khan socio
كاتب المقالة
كاتب ومحرر اخبار اعمل في موقع التصوف والظاهرة الدينية .

جديد قسم : tasawuf maghribi

إرسال تعليق